القرآن الكريم المعجز حدد لنا كيفية التوجه على سطح الأرض كروي الشكل، والمتمثل في اتجاه القبلة موضع المقال. قال سبحانه وتعالى: ﴿ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) ﴾ [سورة البقرة]. فاستهلت الآية الكريمة بقوله سبحانه ﴿ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ حيث كان صلى الله عليه وسلم يقلب توجهه (وَجْهِكَ) إلى القبلة نحو الكعبة ويجعلها بينه وبين القدس، آملا أن تكون الكعبة قبلة أُمَّته، قال تعالى: ﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾، لأن "وجهك يقصد به التوجه للكعبة، حيث قال تعالى "فول وجهك". لكن القرآن عبر عن توجهه للكعبة بـ "فِي السَّمَاءِ" بدلا من "إلى الكعبة". لأن مد البصر عند التوجه لأي جهة بعيدة على الأرضية لن يرى ويصل لعين الهدف كالكعبة، ولكنه ينتهي به النظر إلى السماء، لأن الأرض كروية الشكل. فامتداد إبصارنا هو مسار مستقيم مماس للأرض عن النقطة التي نقف عندها، ويمتد إلى السماء أعلى الكعبة، ولن يرى عين الكعبة. وعبر القرآن عن التوجه للقبلة بكلمة "وجهك" لأن كل ما نراه أمامنا ما بين اليمين واليسار (مسار من دائرة صغرى) والذي يتوسطه الاتجاه الصحيح (مسار من دائرة عظمى)، هي كلها اتجاهات يصل للقبلة أيضا على سطح الأرض الكروي، وذلك مصداقا لقول الرسول ﷺ: « ما بين المشرقِ والمغربِ قِبلةٌ ». لكن مسارات الدائرة الصغرى (الاتجاهات يمينا ويسارا) لا يقسم الأرض نصفين، كما هو الحال مع الدوائر العظمى والذي هو الاتجاه الصحيح والأقصر مسافة بينك وبين الكعبة والذي يقسم الأرض شطرين. لكن روعة البيان القرآني استدلت بكلمة "شطر" بدلا من "نصف"، لأنه لا يمكن تقسم الأرض بالدائر العظمى نصفين متساويين بسبب انبعاجية الأرض، فالدوائر العظمى دائما وأبدا تقسم الأرض شطرين أي نصفين غير متساويين تماما. كذلك فإن "وجهك" تدل على أن "ظهرك" أي استدبار القبلة يشير أيضا إلى القبلة بسبب تكور الأرض. لذلك لا يجوز استقبال ولا استدبار القبلة بغائط أو بول، فكلاهما يأخذان نفس الحكم. لكن استقبال القبلة في الصلاة هو الأفضل، لأنه أقصر مسافة إلى الكعبة المشرفة.
يستبق القرآن العلم، فيخبر بإعجازه المبهر أنه سبحانه وتعالى جعل في الأرض جبال راسيات، حتى لا تميل الأرض وتنحرف بنا. كذلك فإنه سبحانه وتعالى جعل في الأرض أنهارا وسبلا ثابتة الوجود، حتى تكون مرجعا ويهتدى بها، مثلما جعل النجوم كذلك علامات لنهتدي بها. جاء ذلك في قوله سبحانه: ﴿ وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) ﴾ [سورة النحل]. ويجيء العلم يثبت ما أخبر به الحق سبحانه، أن الجبال والنجوم ثوابت يمكن الاهتداء بهما. حيث "أن" تأتي بمعنى "ألا" يعني نفي الحركة للأرض، لكن القرآن تضمن معان أعمق، كانت حقا معجزةً أكثر من ذلك. حيث أن الله سبحانه جعل الجبال رواسي، أي ساكنة على المدى القصير، لكنها متحركة خلال الأمد البعيد، كالسفن التي ترسو فإنها ليست سكنة، لكنها تتموج في موضعها مع موج البحر. تأتي "أن" أيضا لتفيد التفسير والتوكيد. وقد توصل الجيولوجيون إلى وجود سلاسل من التلال في أعمال المحيطات كانت دليلا على حركة القارات (مشتملة الجبال)، والتي عبر عنها القرآن بكلمة "سبل"، والتي تشبه الأنهار شكلا. فسبل هي طرق في الأرض ثابتة ليست من صنع البشر، فمثلها مثل الأنهار. ثم يرتقي بنا القرآن بدليل أعظم نهتدي به على حركة الجبال والأنهار والسبل، ألا وهي النجوم، التي جعلها الله أدق ما يمكن استخدامه لتحديد المواقع بدقة، وكذلك لتحديد الزمن والاتجاهات. فلولا النجوم ما اهتدينا، ولا عرفنا الزمان بدقة، ولا أطلقنا أقمارا اصطناعية، بل ولن يكن معنا أنظمة تحديد المواقع GPS، وأنظمة الاستشعار من بعد، التي بها ندرس حركة الجبال والقارات والمحيطات ونحوهم. وشبه لنا القرآن النجوم بالجبال التي نهتدي بها. فالجبال والنجوم جعلهما الله علامات للاهتداء بهما ليلاً ونهاراً. وتشبيه القرآن بالنجوم يدل على أن النجوم أيضا له حركة بطيئة جدا، والتي أثبتها الفلكيون حيث قد تعود النجوم لنفس موضعها الظاهري بعد 26000 عام. فكيف للقرآن أن يستعرض تلك الحقائق التي ظللنا لعقود لا نعرفها، لولا دخولنا عصر العلم الحديث، ولولا إطلاق مئات الأقمار الصناعية التي كشفت لنا تلك الحقائق. وهو ما يؤكد أن ذلك القرآن الكريم هو كلام الله حقا نزل من عنده سبحانه.
خلق سبحانه وتعالى الماء، فجعله سببا للحياة، فخلق سبحانه كرسي العرش على الماء، ثم بدأ خلق الأرض والسماء، وانتهى خلق الكون كما سبحانه أشاء، لكن الله قدر أن جعل الماءَ بلاء، حتى يمحص من خلقه أيهم أحسن عملا وكيف استخدموا الآلاء، ولما خُلِقَت الأرض كانت لهباً خاويةً ليس بها من حياةٍ ولا ماء، فأنزل لها خالقها الماء من السماء، حيث مرت الأرض بمياه الكون فابتلعت منه بقدر ما سبحانه وتعالى أشاء، فتحولت به الأرض من الأموات للأحياء، فاستقر فيها الماء مسبباً الحياة، ثم أُنشئت السحب تطفو على الأرض علياء، تجمع من بخر الأرض ثم تعود به ممطرة إلى بلدٍ ميتٍ مسببةً النماء، لكن الله لم يقدر فقط أن يكون إنزال الماء إلى الأرض ماضٍ استقرت به الأرض بحياة، بل قدر لها أيضا أن تأتيها السماء بعطاء، فيظل يؤتى الأرضَ ماءٌ من الفضاء، متجدداً به ما في الأرض من ماء، قال تعالى "وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا"، فبهذا خلص بحثنا أن أثبتنا أن الأرض ما زال ينهمر عليها من الكون من ماء، نستبق به علميا عن ما توصل إليه أهل العلم والخبراء.
تتجه رحلة البشر من الدينا إلى حياة أبدية، يمرون فيها بكَبَد، يختار المرء فيها لنفسه آخرته، إما نعيم مقيم، وإما جحيم أليم، قال رسولنا الكريم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" (راوه البخاري)، إنها نهاية أكيدة لا محالة، رحلة يراها المرء بعيدة، لكن خالقنا يراها قريبة. انطلقت حياتنا من بداية لا نراها، لكن خالقنا أخبرنا إياها. ونتجه إلى نهاية لا نراها، لكن خالقنا صورها لنا، حتى لا يكون للكافر حجة يوم القيامة. تطلع الفلكيون إلى السماء بأبصارهم، فوجدوا فيها ما يخاطب وجدانهم، هل من خالق غير الله؟ لا إله إلا الله، رأوا بأبصارهم أن للكون بداية. وأيقنوا أن للكون نهاية، يسبح الكون إلى مكان مجهول، لا يستطيع البشر رصده لبعده السحيق، إنها رحلة طويلة كما يراها المخلوق، فإذا كانت السماوات جميعا بيد الرحمن، فالآخرة قريبة إلى خالق الكون. خاطب الله الإنسان عن خلقه حين بدأه، فهدى الله له السبيل إما شاكرا وإما كفورا، وصف الله للإنسان آخرته، دعانا الله لعبادته خلال رحلتنا للآخرة، شكر الله من أحسن اختيار الطريق، حقا فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا. صور لنا القرآن رحلة الحياة صوب المصير، بمرسلات عاصفات تنتشر فتفترق في أجواء السماء حتى تلقى كما ذكر رب العباد، والنهاية إنها المصير الأكيد، إنما توعدون لواقع.